هناك فرق شاسع بين التحقيق في حوادث الشُّغْل او ما يسمى ايضا بالحوادث المهنية والعثور على شخص يتم لومه وتحمله مسؤوليه كل ما وقع ، لسوء الحظ أصبح من الشائع جدا ان تخلط الشركات بين المفهومين, عندما يحدث خطأ ما فإنهم يعملون بجد على تحديد الأشخاص المسؤولين عن الحادث وهذه هي النقطة التي ينتهي فيها التحقيق .
مع ذلك فإن معظم حوادث الشغل ليست بهذه البساطة والوضوح كما يبدو. فربما يتحمل العامل بعض اللوم على الاقل ولكن الأسباب الحقيقية وراء الحادث تكون أبعد من ذلك . في معظم الحالات لا يكون السبب وراء الحادث وحيدا وانما تركيبة من العوامل التي اجتمعت في ظروف معينة وأدت إلى وقوع الحادث .
يبقى النهج الصحيح والفعال هو تجاوز إلقاء اللوم والتركيز على تحديد العيوب في العملية التي أدت إلى الحادث والقصور في إجراءات السلامة التي كان من المفترض ان تمنع حدوثه، لان الهدف الاساسي من وراء التحقيق ليس فقط منع عدم تكرار الحادث، وإنما استخدام ما تعلمناه من هذا الحادث المهني لتفادي أنواع أخرى من الحوادث المشابهة، أما الهدف الثاني فهو الاستعداد للتقاضي في الحالات التي تؤدي فيها الحوادث إلى إصابات خطيرة أو وفيات.
من المهم أيضا الحرص على التحقيق بشكل صحيح في جميع الحوادث حتى تلك التي قد تبدو غير منطقية وذلك لسببين أساسيين:
اولا يمكن للدروس المستفادة من التحقيق حتى في الحوادث الصغير ان تكون مفيدة في منع وقوع حوادث اكبر في المستقبل.
ثانيا يرسل التحقيق في جميع الحوادث حتى الصغيرة منها رسالة الى الموظفين والمنظمين الخارجيين مفادها أن الشركة تأخذ التزاماتها بالسلامة على محمل الجد و تتابعها باستمرار.
يتمثل دور المحقق في جمع المعلومات وتنظيمها بشكل جيد في محاولة لكشف الحقيقة وراء الأسباب الحقيقية لوقوع الحادث, مع الأخذ بعين الاعتبار كون التفاصيل لا تكون محددة بوضوح دائما, كما أن الشهود يمكن أن يقدموا وجهات نظر وشهادات متباينة على نطاق واسع حول نفس الموضوع, لهذا يجب أن يكون المحقق خبيرا ولديه الكفاءة لكي يحظى بثقة الإدارة وتعاونها الكامل.
للخروج بنتائج جيدة يجب أن يشمل التحقيق النقاط السبع التالية:
1- الاستجابة الفورية والتحضير
فور اتخاذ القرار بفتح تحقيق في الحادث يتعين على المحققين الذين يقومون بالتحقيق القيام ببعض الأمور الأساسية قبل زيارة موقع العمل.
بعد تفعيل مسطرة الاستجابة لحالة الطوارئ و الاتصال بفريق التدخل السريع, اضافة الى اِخطار جميع الأطراف المتدخلة لتأمين الموقع وحماية باقي العاملين من مخاطر تبعات الحادث ,
يتعين على المحققين الاتصال بالقائمين على الموقع واعلامهم بضرورة تأمين الموقع والمحافظة عليه كما هو وذلك بمنع المتطفلين من العبث بالادلة و تغيير معالم مسرح الواقعة .
قد يستدعي هذا الإجراء وقف جميع الأشغال الجارية التي يمكن ان تعرض العمال للخطر أو تغير من معالم الموقع.
بعد ذلك يتعين عليهم الانتقال فورا الى عين المكان مع الأخذ بعين الاعتبار إمكانية تعرضهم لمخاطر الموقع المرتبطة بمخلفات الحادث.
كل تأخير في بداية التحقيق سيؤدي إلى طمس معالم الحادثة وأثرها في الموقع, اضافة الى ارتفاع احتمال نسيان الشهود لوقائع الحادثة لأنه كلما طالت المدة الفاصلة بين وقت الحادثة ووقت استرجاع ذكريات الحادثة. كلما بدأ الشهود في اختلااق مشاهد خيالية على أساس فرضيات لا على أساس الوقائع.
2 – جمع المعلومات
بمجرد تامين الموقع ووُصولِ المُحَقِّقِين, يجب عليهم البدء في جمع اكبر قدر من المعلومات على التي ستساعدهم على تحديد اسباب الحوادث واصابات العمل وطرق الوقايه منها واستغلال الوقت قبل أن يبدأ الشهود في نسيان التفاصيل وان يؤدي سيران الاشغال الى طمس معالم الحادث وإتلاف الأدلَّة.
الأهم ان هذه المرحلة تتطلب الاستعجال في البدء بها, غير أنها لا تتطلب السرعة أثناء التنفيذ, لأن ذلك قد يجعل المحققين يغفلون عن بعض التفاصيل الفاصلة و المحددة لمنحى التحقيق .
تتضمن هذه العملية استجواب الشهود و المصابين ومطالبتهم بإكمال وتوقيع محضر الاستماع الخاص بشهادتهم, والهدف الأساسي من هذه العملية هو الحصول على أكبر قدرِِ من المعلومات لتحليلها ومعرفة ماذا حدث بالضبط, وليس البحث عن كبش فداء وإلقاء اللوم عليه.
كما يجب على المحقق جمع أية وثائق قد تكون مفيدة, من سجلات المعدات والصور والمخططات الخاصة بمكان الحادث وفحصها جيدا, اضافة الى تحديد الثغرات في المعلومات ومحاولة سدِّها عن طريق بحث اضافي.
بعد الانتهاء من جمع المعلومات يجب تصنيفها إلى ثلاثة فئات على الشكل التالي:
- المعلومات والأدلة المحصَّلةِ من الشهود: وهي المعلومات التي يتم الحصول عليها من الأفراد أثناء جلسات الاستماع.
- المعلومات والأدلة المادية: وهي الأدلة المادية التي تم جمعها من موقع الحادث, مثل قطع الآلات, الغبار أو العينات الكيميائية ومعدات الحماية الشخصية.
- المعلومات والأدلة الموثقة: وهي مثلا تعليمات التشغيل الخاصة بالشركة المُصَنِّعَةِ للالات , جداول وبيانات السلامة, صور وأشرطة الفيديو من كاميرات المراقبة وما إلى ذلك.
3 – تحرير موقع الحادثة
سيكون من المثالي الحفاظ على موقع الحادث أمن أثناء استمرار التحقيق إلا أن هذا الأمر ليس عمليا في معظم الحالات, خصوصا في مواقع البناء, ولذاك, بعد جمع المعلومات الكافية القابلة للتحليل, يجب على المحققين تحرير موقع الحادثة والسماح باستئناف الأشغال لتفادي أي تأخير غير ضروري قد يكون مكلفا في بعض الأحيان.
ولكن قبل القيام بذلك عليهم التأكد بأن الأسباب المباشرة التي أدت إلى وقوع الحادث غير متواجدة و أن الموقع آمن.
4 – تحليل المعطيات
في هذه المرحلة يمكن للمحققين الوصول إلى جميع البيانات والمعلومات المتاحة وهم جاهزون لتحديد ما وقع بالفعل.
الطريقة الأكثر فعالية لتحليل المعطيات هي تنظيم كل الاحداث في نسقين:
اولا – يجب إدراج الأحداث بترتيبها الزمني مع إعادة سرد الوقائع خطوة بخطوة.
ثانيا – يجب تنظيم الوقائع منطقيا إظهار وتوضيح ارتباطها ببعضها عن طريق إنشاء شجرة الأسباب التي تقوم بإعادة تشكيل الحوادث والظروف التي أدت إلى وقوع الحادث من خلال طرح سؤال “لماذا” باستمرار و العودة عكسيا الى الوراء عبر البدء الحادثة قيد التحقيق. خلال هذه المرحلة يجب الاعتماد على معلومات واقعية و الابتعاد عن الفرضيات في حالة غياب أجوبة منطقية ومقنعة.
تحليل هذه المعطيات بطريقة فعالة سيؤدي إلى معرفة الأسباب الجذرية وراء الحادث.
5 – إنشاء تقرير
التوثيق هو جزء أساسي من أي برنامج للصحة والسلامة المهنية, وهو مهم بشكل خاص أثناء التحقيق في حوادث الشغل المهنية , لانه يمَكِّنُ الجميع من الرجوع الى المعلومات المتعلقة بالحادث دون الحاجة إلى الوثوق بذكريات غير مكتملة عن الحادث.
كما تتجلى الحاجة اليه ايضا عند الرجوع الى القضاء, وهذا أمر وارد بعد عدة اشهر من وقوع الحادث أو حتى بعد سنوات.
يمكن ايضا استخدام المعلومات الواردة في مختلف أقسام التقرير لِنشر الدروس المستخلصة من الحادث وضمان سلامة العمال في نفس المنشأة وكذلك المنشآت الأخرى.
يجب أن تتم صياغة المحضر بطريقة متناسقة و مفهومة للجميع, مع الأخذ بعين الاعتبار كون القارئ لا يتمتع بالمعرفة المُتَعمِّقة عن الحادث بقدر المحققين, و لذلك يجب تضمين جميع المحاضر وكافة التفاصيل ذات الصلة بالحادث المهني والاعتماد على المخططات والرسوم المُرَمَّزَةِ لضمانِ فهمِِ أفضلَ للمحتوى.
في النهايةِ يجبُ أن يتضمَّن التقريرُ الأسبابَ الجذريةَ للحادثِ و الاصاباتِ و طُرُقِ الوقاية منها.
6 – مشاركة نتائج البحث
تكمن قيمة التقرير في قدرته على منع وُقوعِ حوادثَ مهنيةِِ في المستقبلِ انطلاقا من الدروس المستخلصة من الحادث والتوصيات التي يحتوي عليها التقرير. لذلك يجب مشاركة التقرير مع جميع أفراد فريق الإدارة وكذلك العاملين في المشروع أو الشركة . فكلما فهم الجميع أوجه القصور التي ساهمت في وقوع الحادث بشكل أفضل قَلَّ احتمالُ تكرارِ هذه المواقف.
تشكل مشاركة التقرير دافعا قويا لتشجيع العمال على اتخاذ الخيارات الصحيحة في المستقبل وذلك للاطلاع على حيثيات وأسباب وقوع الحادث.
7 – القيام بالإجراءات التصحيحية
وفي الأخير, يصبح التقرير بلا قيمة إذا لم يتم تنفيذ توصيات المحققين وإجراء التغييرات الضرورية على العمليات والإجراءات,وذلك لضمان عدم تكرار الحادث مرة أخرى. وأهم جزء هو التغيير والمتابعة المنتظمة لضمان اتخاذ الخطوات الصحيحة, وبذلك سيكون الوقت والجهد اللذين تم استثمارها في التحقيق في الحادث جديرة بالاهتمام.